فصل: مسألة يعطي اللَّه في الدنيا لمن يحب ولمن يبغض:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة يعطي اللَّه في الدنيا لمن يحب ولمن يبغض:

فيما يعطي اللَّه في الدنيا لمن يحب ولمن يبغض قال: وحدثنا ابن القاسم عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه، قال: يقال: إِنَّ اللَّه يحب العبد حتى يبلغ من حبه إياه إن يسكنه في أَعلى غُرف الجنة، ثم يعمد إلى خير ما يعلم له من الدنيا فيكون ما يكره ذلك العبد، فيكثر له منه حتى إن الناس لا يرحمونه، وإن الله ليرحمه به، وإن الله ليبغض العبد حتى يبلغ من بغضه له ما يسكنه في أسفل درك جهنم، ويعطيه من الدنيا شر ما يعلم فيكون ما يحب ذلك العبد، فيكثر له منه.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لا يكون رأياً، ومصداقه في كتاب اللَّه، قال اللَّه عز وجل: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

.مسألة نهي النساء عن لباس القباطي:

في نهي النساء عن لباس القباطي قال مالك: وبلغني أن عمر بن الخطاب نهى النساء عن لباس القباطي، قال: فإن كانت لا تشف، فإنها تصف.
القباطي ثياب ضيقة تلصق بالجسم لضيقها فتبدو ثخانة جسم لابسها من نحافته، وتصف محاسنه، وتبدي ما يستحسن منه مما لا يستحسن، فنهى عمر بن الخطاب أن يلبسها النساء امتثالاً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، واللَّه أعلم.

.مسألة ما ذكر في قتل يحيى بن زكريا:

فيما ذكر في قتل يحيى بن زكريا قال مالك: وبلغني أن يحيى بن زكريا إنما قتل في امرأة، وأن بخت نصر لما دخل بيت المقدس بعد زمن طويل، وجد دمه يفور لا يطرح عليه سقي تراب، ولا شيء إلا فار وعلا عليه، فلما رآه دعا بني إسرائيل وسألهم، فقالوا: لا علم لنا، هكذا وجدناه. وأخبرنا به آباؤنا عن آبائهم: أنهم هكذا وجدوه. قال بخت نصر: هذا دم مظلوم ولأقتلن عليه، فقتل سبعين ألفاً من المسلمين والكفار فهدأ بعد ذلك.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الحكاية: إِن يحيى بن زكرياء إنما قتل في امرأة ولم يبينِ كيف كان سببه مع المرأة التي قتل من أجلها؟ فرُوي عَنِ ابْنِ عًبّاس «أن رَسولَ اللَهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أسْرِي به رَأى زَكَرِيَّاءَ فِي السمَاء، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَه: يَا أبَا يَحْيى، أخْبِرْنِي عَنْ قَتْلِكَ، وَكَيْفَ قَتَلَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ؟ فَقَالَ: يَا مُحَمَدُ، أخْبِرُكَ أنَّ يَحْيىَ كَانَ خَيْرَ أهْل زَمَانِهِ وَأجْمَلَهُم وَأصْبَحَهُم وَجْهاً. وَكَانَ كَمَا قَالَ اللَهُ: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] لَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّسَاءِ، فَهَوِيَتْهُ امْرَأةُ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَعَصَمَهُ اللَّه، وَامْتَنَعَ مِنْهَا، فَأَجْمَعَتْ عَلَى قَتْله، وَكَانَ لَهُم عِيد يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنةٍ، وَكَانتْ سُنَّةُ الْمَلِكِ معه إِذَا وَعَدَ لَمْ يُخْلِفْ وَلَا يَكْذِبُ، فَخَرَجَ إِلَى الْعِيدِ، فَقَامَتِ امْرَأتُهُ فَشَيَّعَتْه، وَكَانَ بِهَا مُعْجَباً وَلَم تَكنْ تَفْعَلُهُ، فَقَالَ لَها الْمَلِكُ: سَلِي حَاجَتَكِ، فَمَا تَسألِيني شَيْئاً إِلَا أعْطَيْتُكِ، فَقَالَتْ: دَم يَحْيىَ، فَقَالَ: سَلِي غَيرَهُ، قَالَتْ: هُوَ ذَلِكَ، قَالَ: هُوَ لَكِ، فَبَعَثَ إِلَى يَحْيىَ وَهُوَ فِي مِحْرَابِهِ يُصَلِّي وَأنَا إِلَى جَنْبِهِ أصَلِّي فَذُبحَ فِي طَسْتٍ فَحُمِلَ رأسُهُ وَدَمُهُ إِلَيْهَا، قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَمَا بَلَغَ مِنْ صَبْرِكَ؟ قَالَ: ما أبطلت مِنْ صَلاَتِي، فَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَيْهَا فَوَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَلما أمْسَوْا خَسَفَ اللَّهُ بالْمَلِكِ وَأهْلَكَ بَيْتَهُ وَحَشَمَهُ، فَلَمَا أصْبَحُوا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: قَدْ غَضِبَ إلهُ زَكَرِيَّاء لِزَكَرِيَّاءَ، فَتَعَالَوْا حَتَّى نَغْضبَ لِمَلِكِنَا فَنَقْتُلَ زَكَرِيَّاءَ، فَخَرَجُوا فِي طلَبي لِيَقْتُلُونِي فَجَاءَنِي النذِيرُ، فَهَرَبْتُ مِنْهُم وَإِبْلِيسُ أمَامَهُم يَدُلُّهُم عَلًيّ فَلًمّا تخَوّفْت أَن يَلْحَقُونِي عَرَضَتْ لِي شَجَرَةٌ، فَنَادتني: إليَّ إِلَيَّ، فَانْصَدَعَتْ لِي، فْدَخَلتُ فِيهَا وَأخَذَ إِبْلِيسُ بِطَرَفِ رِدَاء لي وَالْتَأمَتِ الشَّجَرَةُ فَبَقِيَ طَرَفُ رِدَائِي خارِجاَ مِنَ الشَّجَرَةِ، فجاءَت بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ إِبْلِيس: دَخَلَ فِي هَذِهِ الشَجَرَةِ، وَهَذَا طَرَفُ رِدَائِهِ دَخَلَهَا بِسِحْرِه، فَقَالَ: نَحْنُ نَحرِقُ الشَّجَرَةَ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: بَلْ شقُوهَا، فَشَقُّوها فانْشَقَقْتُ مَعَ الشَجرةِ بِالمِنْشَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: يَا زَكَرِياءُ، هَلْ وَجَدْتَ مسا أوْ وَجَعاً؟ قَالَ: لَا، إِنمَا وَجَدْتُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ، جَعَلَ اللَهُ رُوحي فيهَا».
وقد جاء في بعض الأخبار: أن سبب طلبهم ليقتلوه حين هرب منهم، فانصدعت له الشجرة، هو أن مريم لما حملت قالوا: ضيع بنت سيدنا في كفالته إياها حتى زنت. وروىِ عن ابن عباس: أن الذي انصدعت له الشجرة فدخل فيها هو أشعب عَلَيْهِ السَّلَامُ قبل عيسى، وأن زكريا مات موتاً. فاللَّه أعلم.
وقد جاء في بعض الأخبار: أن يحيى بن زكريا كان تحت يدي ملك، فهمت بنت الملك بأبيها، وقالت: لو تزوجت أبي فيجتمع لي سلطانه دون نسائه إن تزوجني، ودعته إلى نفسها، فقال: يا بنية، إن يحيى بن زكريا لا يُحل لنا هذا. فقالت: من لي بيحيى بن زكريا، ضيف عليَ، وحال بيني وبين تزويجي أبي، فأغلب على ملكه ودنياه دون نسائه، فتحيلت لقتل يحيى وأمرت اللعاب، فقالت: ادخلوا على أبي فالعبوا فإذا فرغتم فإنه سيحكِّمكم، فقولوا: دم يحيى بن زكريا ثم لا تقتلوا غيره، وكان الملك إذا حدث فكذب، أو وعد فأخلف، خُلع واستبدل غيره، فلما لعبوا وكثر عجبه منهم، قال: سلوني، قالوا: نسألك دم يحيى بن زكريا، قال: سلوني غير هذا، قالوا: لا نسألك غيره، فخاف على ملكه إن هو خالفهم أن يستحل بذلك خلعه، فبعث إلى يحيى وهو في محرابه يصلي، فذبحوه ثم جروا رأسه، فاحتمله الرجل في يده، والدم في الطَّست معه حتى وقف على الملك ورأسه في يد الذي يحمله، والرأس يقول: لا يحل لك ما تريد. وروي عن كعب نحو من هذا، إِلاَ أنه قال: لما قتل يحيى أقبل رأسه ينحدر ويقول بين يدي ظهراني الناس: لا يحل لك ما تريد من نكاح أختك، قال كعب: كانت أخته. وقال غير كعب: كانت بنت أخيه.
وقد جاء: أنها كانت زوجة أخيه؛ لأن ذلك في زمن لم يكن للرجل منهم أن يتزوج امرأة أخيه بعده. وإذا كذب متعمِّداً لم يول الملك فمات الملك. وأراد الملك أن يتزوج امرأة الملك الذي مات، وكان أخاه، فسألهم فرخصوا له، فسأل يحيى بن زكريا، فأبى أن يرخص له، فحقدت عليه امرأة أخيه، وجاءت بنت أخي الملك الأول إليه، فقال: سليني اليوم حكمك، فقالت: حتَى أنطلق إلى أمي، فأتت أمها فقالت: قولي له: إن أردت أن تفي لنا بشيء، فأعطني رأس يحيى بن زكرياء، قال: قولي غير هذا خير لك، قال: فلبث وكره أن يخالفها فلا يولى الملك. فدفع لها يحيى بن زكريا فذبحته فناداها مناد من فوقها: يا ربة البيت الخاطئة العادية، أبشري فإنك أول من يدخل النار، وخسف بابنتها وجاءوا بالمعاول، فجعلوا يِحفرون عليها، وتدخل في الأرض حتى ذهبت.
ولما كثر الفساد في بني إسرائيل، وجاهرَوا بالمناكر، وعلوا في الأرض واستكبروا فيها كما أخبر اللَّه عز وجل بقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4]... الآية- انتقم منهم بما سلط عليهم. ويقال: إنه كان من فسادهم الثاني قتل يحيى بن زكرياء، فبعث الله عليهم بخت المجوسي، فسبى وقتل منهم سبعين ألفاً وخرَّب بيت المقدس، وحرق التوراة. وكان من شأنه في دم يحيى الذي وجده نصر البابلي يفور ما ذكر في الحكاية.
وجاء في بعض الأخبار: أن الذنوب والمعاصي لما كثرت في بني إسرائيل، بعث الله لهم نبيّاً يقال له أرمياء، فلما أنذرهم بعذاب اللَّه لهم على طغيانهم وعصيانهم، وأنه مُهلكهم ومُخلي الأرض منهم، وقعوا به فضربوه وحبسوه، فَأنجز اللَّه وعده، وسلط عليهم بخت نصر، ولم يزل أرمياء محبوساً حتى جاء بخت نصر فيما لا يحصى من العدد، فحاصرهم حتى مات من مات منهم في الحصَار، إلى أن نزلوا على حكمه، فقتل مقاتلتهم كل قتلة، منهم من حرق بالنار، ومنهم من بطح على وجهه ومشيت عليه الخيل والدواب، وصفد الأحبار والرهبان، وسبى النساء والولدان، وحرق التوراة، وخرب المسجد.
وجاء في بعض الأخبار: أن رجلًا من علماء أهل الشام وجد نعت بخت نصر في الكتاب: إنه غلام يتيم، وله أم وله دواته ينزل ببابل وهو من أهلها، فقدم الرجل بابل، فطلبه وسأل عنه حتى عرفه بالنعت، وكان فقيراً يسرق الفراريج في صغره، فقال العالم ذات يوم: إنك ستملك الشام، فتظهر على الناس فاكتب لي ولقومي أماناً، فقال: لا أدري ما هذا الذي تذكر؟ فلم يزل به حتى كتب له ولقومه أماناً، فلما شب قطع الطريق واجتمع الناس إليه فأرسل إليه ملك فارس جيشاً فهزمهم، ثم أرسل إليه جيشاً آخر فهزمهم، ثم سار إلى فارس، فغلب عليها، ثم لبث ما شاء اللَه أن يلبث، ثم توجه إلى الشام، فلما دنا من الشام، خرج العالم إلى مقدمته، فقال: إن الملك عندي بصحة، فجعل قوم يدفعه إلى قوم حتى دخل عليه، فقال له: هل تعرفني؟ فقال: ما أعرفك. فقص عليه العالم القصة، فقال: ما أدري ما هذا الذي تقول، ما هذا إلا مال ورثتهُ عن آبائي، فلم يزل به حتى أقر له، ووفى بأمانه، وأمنه، وقال: لا تخبر أحداً.
فلما ظهر على الشام إذا هو بدم يحيى بن زكريا يفورُ، فقال: لأقتلن على هذا الدم حتى يسكن، فقتل عليه سبعين ألفاً، فجعل لا يسكن حتى جاء قاتله، فقال: هذا الدم لا يسكن أبداً حتى تقتلني، فأنا الذي قتلته، فسكن الدَم وظهر على الشام وخرب بيت المقدس وحرق التوراة. وبالله التوفيق.

.مسألة التوقي في حمل الحديث:

في التوقي في حمل الحديث قال مالك: وبلغني أن ابن سيرين كان يقول: إنما هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تحملون دينكم. قال: وكان يحدث بالحديث ثم يتركه، ويقول لأصحابه: قد تركت حديث كذا وكذا فاتركوه.
قال محمد بن رشد: قوله: فانظروا عمن تحملون دينكم- يدل على أنه لا يجب قول خبر الراوي والعمل به، إلا بعد أن ينظر فيه، فتعرف عدالته، بأن يكون مجتنباً للكبائر متوقياً للصغائر.
هذا أحسن ما قيل في حدِّ العدالة؛ لأن من واقع كبيرة من الكبائر، فهو فاسق محمول على الفسق حتى تعلم توبته منها، ومن لم يتوق من الصَّغائر، فليس بعدل حتى تعلم توبته منها؛ لأن متابعة الصغائر كمقارفة الكبائر، والشافعي يشترط المروءة في جواز الشهادة، ولا تصح العدالة إلا بعد الإِسلام والبلوغ. فهذه الثلاثة أوصاف مشروطة في العدالة، فمن ظهر فسقه لم تقبل روايته، ومن ظهرت عدالته، قبلت روايته إجماعاً.
واختلف إذا جهلت حاله، فلم يعلم منه فسق ولا ظهرت منه عدالته، فقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يحمل على العدالة، وتقبل روايته، وكذلك قالوا في الشهادة على الأموال خاصة، دون الشهادة على ما سواها من الحدود والأبضاع وشبهها. واستدلوا لِما ذهبوا إليه من ذلك بقول عمر بن الخطاب: الْمُسْلِمُونَ عُدولٌ بَعْضُهم عَلَى بَعْضٍ... الحديث، ولا حجة لهم في ذلك، إذ ليس على ظاهره؛ لأن معناه: إنما هو أن المسلمين هم الذين تجوز شهادتهم على بعضهم، لا الكفار، بدليل قوله: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لا يُؤسر رَجَلٌ فِي الإِسْلاَم بِغَيْرِ الْعُدًول. والذي ذهب إليه مالك وجمهور العلماء أنه لا تقبل روايته، ولا تجوز شهادته إلا بعد أن تعرف عدالته؛ لقوله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] إذ لا يُرضى إِلاَّ من عرف بالعدل والرضا.
وقد مضى الكلام على هذا مستوعبا في سماع سحنون من كتاب الشهادات، وأما تحمُّل الخبر والشهادة فلا يشترط في صحته إلا الميز والضبط خاصة، لا الإِسلام، ولا البلوغ، ولا العدالة، ولا الحرية.
وتَرْكُ ابن سيرين للحديث بعد أن حدث به قد يكون لنسخٍ بلغه فيه، أو لشيء اتصل به عن روايته، واللَّه أعلم.

.مسألة حفظ قبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:

في حفظ قبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال مالك: انهدم حائط بيت رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي فيه قبره، فخرج عمر بن عبد العزيز، واجتمع رجالات قريش، فأمر عمر بن عبد العزيز فستر بثوب، فلما رأى ذلك عمر بن عبد العزيز من اجتماعهم، أمر مزاحماً أن يدخل يخرج ما كان فيه فدخل فَقَمَّ ما كان فيه من لبِنٍ أو طحين وأصلح في القبر شيئاً كان أصابه حين انهدم الحائط ثم خرج وستر القبر، ثم بنى.
قال محمد بن رشد: إنما ستر عمر بن عبد العزيز القبر إكراماً له وخشي لما رأى الناس قد اجتمعوا أن يدخلوا البيت فيتزاحموا على القبر فيؤذوه بالوطء لتزاحمهم عليه رغبةً في التبرك به، فأمر مزاحماً مولاه بالانفراد بالدخول فيه، وقمه وإصلاح ما انثلم منه بانهدام الحائط عليه. وإنما ستر القبر على الناس وبنى عليه بيتاً صيانة له مخافة أن ينتقل تُرابه ليستشفى به، أو ليتخذ مسجداً يصلى فيه، فقد قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لَا تَجّعَلْ قَبْرِي وَثناً يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْم اتَّخَذُوا قُبورَ أنْبِيَائِهم مَسَاجِد». وباللَّه التوفيق.

.مسألة حرمة ظهر المسجد:

في أن لظهر المسجد من الحرمة ما للمسجد قال مالك: كان عمر بن عبد العزيز يفرش له على ظهر المسجد في الصيف فيبيت فيه ولا تأتيه فيه امرأة. ولا تقربه وكان فقيهاً.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن لظهر المسجد من الحرمة ما للمسجد، ألا ترى أنه لم يجز في المدونة للرجل أن يبني مسجداً ويبني فوقه بيتاً يرتفق به. واحتج للمنع بفعل عمر بن عبد العزيز هذا. وقال: إنه لا يورث المسجد ولا البنيان الذي يكون على ظهره، ويورث البنيان الذي يكون تحته، وإنما اختلف هل لما فوق المسجد من ظهره حكم المسجد في جواز صلاة الجمعة فيه؟ على قولين: أحدهما: قوله في المدونة: إنه يعيد مَن فعل ذلك ظهراً أربعاً، وأشهب يكره ذلك ابتداء ولا يرى عليه إعادة إن فعل، في وقت ولا غيره، وهو اختيار أصبغ. وفي كتاب السرقة من المدونة دليلٌ على هذا القول، وهو قوله فيه في الذي ينشر ثيابه على ظهر بيته وهو محجورٌ عن الناس، فيسرقها سارق: إنه يقطع. وفي المبسوطة لأنس بن مالك، وعروة بن الزبير: أنهما كان يصليان الجمعة بصلاة الِإمام في بيوت محمد بن عبد الرحمن وبينها وبين المسجد الطريق، وذلك خلاف مذهب مالك وأصحابه.

.مسألة غسل اليد قبل إدخالها في الوضوء:

في غسل اليد قبل إدخالها في الوضوء قال مالك: قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَامَ أحَدُكُمْ مِن مَنَامِهِ، فَلْيُفْرِغْ عَلَى يَدِهِ الْمَاءَ قَبْلَ أنْ يُدْخِلَهَا فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ أصْنَعُ بِهَذَا الْمِهْرَاس؟ فَقَالَ أبُو هُرَيرَة: أفٍّ لَكَ».
قال محمد بن رشد: لما أمره في الحديث أن يُفرغ عَلى يديه الماء قبل أن يدخلهما ليه، سأله كيف يصنع بالمهراس الذي لا يُمكنه أن يفرغ منه على يديه، وتأول عليه أبو هريرة أنه لم يسأله مستفهماً، وإنما سأله معارضاً للحديث، يقول: كيف يأمره أن يفرغ على يده من الماء قبل أن يدخلهما فيه، وقد يكون المهراس، فلا يمكنه أن يفرغ على يده منه؟ ولذلك قال له: أفٍّ لك، أي: لا تعارض الحديث، يريد أن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله. وهذه الزيادة وقعت في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء. ومضى الكلام على هذه المسألة في غير ما موضع من الكتاب المذكور. وتحصيل القول في ذلك: أن الماء إذا وجده القائم من نومه في مثل المهراس الذي لا يمكنه أن يفرغ منه على يديه ليغسلهما، فإن أيقن بطهارة يده أدخلها فيه، وإن أيقن بنجاستها لم يدخلها فيه، واحتال لغسلها، بأن يأخذ الماء بفيه، أو بثوب، أو بما قدر عليه. وإن لم يوقن بنجاستها ولا بطهارتها، فقيل: إنه يدخلها في المهراس، ولا شيء عليه؛ لأنها محمولة على الطهارة، وهو قول مالك في آخر سماع أشهب من كتاب الوضوء. وقيل: إنه لا يدخلها فيه، وليحتلْ لغسلها بأخذ الماء بفيه، أو بما يقدر عليهِ، وهو ظاهر قول أبي هريرة في هذه الرواية. وأما إِن قام من نومه، فوجد الماء في إناء يُمكنه أن يفرغ منه على يديه في الماء، فلا يدخل يديه في الماء حتى يغسلهما، فإن أدخلهما فيه قبل أن يغسلهما فالماء طاهر إن كانت يده طاهرة، ونجس إن كانت يده نجسة على مذهب ابن القاسم: يتيمم ويتركه، فإن لم يعلمِ بيده نجاسة فهي محمولة على الطهارة، لا تفسد عليه المَاء، وسواء أصبح جنباَ أو غير جنب، خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من تفرقته بين الوجهين.

.مسألة تفسير مائلات مُميلات:

في المائلات المميلات وسئل مالك: عن تفسير مائلات مُميلات. قال: مائلات عن الحق، مميلات مَن أطاعهن.
قال محمد بن رشد: يريد: سئل عن تفسير ما جاء في الحديث من قوله مَائِلَات مميلات، وهو حديث وقع في الموطأ بكماله موقوفاً على أبي هريرة قال: «نسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلاَت لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَريحُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمَائَةِ عَامٍ». ومثله لا يكون رأياً. وقد رواه عن مالك مرفوعاً عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عبد اللَّه بن نافع الصائغ. والكاسيات العاريات من النساء هن اللواتي يلبسن الرقيق من الثياب التي تصف وتشف ولا تستر، فهنَّ في الحقيقة لابسات، وفي المعنى: عاريات.
وقوله: «إِنًهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَهوَ يُوجَدُ مِن مَسِيرَة خَمْسِمائَةِ عَام»- مَعناه: إِن هذا هو جزاؤهن عند اللَّه عز وجل على هذا الفعل، إن جازاهن عليه ولم يغفره لهن، فإنه عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وليس معنى قوله إِنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ على التأبيد، وإنما معناه: إِنَّهنَّ لا يدخلن فيها إلا بشفاعة النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في المذنبين.

.مسألة الخروج من المسجد بعد الأذان:

في كراهية الخروج من المسجد بعد الأذان قال مالك: بلغني أن رجلًا قدم حاجاً وأنه جلس إلى سعيد بن المسيب وأذن المؤذن فأراد أن يخرج من المسجد، واستبطأ الصلاة، قال له سعيد: لا تخرج، فإنه بلغني أنه من خرج بعد المؤذن خروجاً لا يرجع إليه، أصابه أمر سوء. قال: فقعد الرجل، ثم إنه استبطأ الِإقامة، قال الرجل: ما أظنه إلا قد حبسني فخرج، فركب راحلته فصرع، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال: ظننت أنه يصيبه ما يكره.
قال محمد بن رشد: قول سعيد: وقد بلغني أنه من خرج بعد المؤذن خروجاً لا يرجع إليه أصابه أمر سوء- معناه: إن ذلك بلغه عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، إذ لا يقال مثله بالرأي، وهي عقوبة معجلة من اللَه عز وجل للخارج بعد الأذان من المسجد على أن لا يعود إليه لإيثاره تعجيل حوائج دنياه على الصلاة التي حضر وقتها.
قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وأمّا إن خرج راغباً عنها وآبياً من فعلها فهو منافق. وقد قال سعيد بن المسيب: بلغني أنه لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء، إلى حد يريد الرجوع إليه، إلا منافق. وباللَّه تعالى التوفيق.

.مسألة ما كان عليه أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في حياته:

فيما كان عليه أصحاب رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته إلى أن توفي في التقلل في الدنيا وترك التنعُّم فيها والرضا بالدون من العيش قال: وسمعت مالكا، يقول: سمعت أنه توفي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس بالمدينة منخل ينخل به، فقيل لبعض أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف كنتم تفعلون؟ قالوا: نطحن الشعير ثم ننفضه ثم ننفخه، فما طار طار، وما بقي بقي.
قال الِإمام القاضي: في هذا دليل على أن أحوال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تتسع بالوفر والغنى في حياته، كما اتسعت بعد وفاته مما أفاء الله عليهم من الغنائم والفتوحات، التي وعدهم الله بها حيث يقول: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20]، فكثرت أموالهم من ذلك واتسعت أحوالهم، وصاروا أهل ثروة وغنى، منهم الزبير بن العوام، بلغت تركته خمسين ألف ألف ومائتي ألف، بعد أن ودَى عنه ابنه عبد الله ما كان عليه من الدين، وذلك ألف ألف ومائتا ألف، باع فيه بعض ما كان تخلفه من الأموال، وقطع من الغابات التي كان تخلفها ميراثاً قطعة لعبد الله بن جعفر في أربعمائة ألف كان له عليه، فباعها ابن جعفر بستمائة ألف، ربح فيها مائتي ألف، وفضلت من الغابة بعدما باع منها مائة ألف، فقوم على معاوية، وأخبر بذلك، وعنده عمرو بن عثمان، ومنذر بن الزبير وعبد الله بن ربيعة، فقال عمرو بن عثمان: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال منذر بن الزبير: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال عبد الله بن ربيعة: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال معاوية: قد أخذت السهم الباقي ونصف السهم بمائة ألف وخمسين ألفاً، وكان له أربع زوجات، وأوصى بثلث ماله، فأخرج الثلث، وأصاب كل امرأة من نسائه، ألف ألف ومائتا ألف وكانوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ في كلتا الحالتين محمودين؛ لأنهم صبروا في حالة الفقر على ضيق العيش، وشكروا الله على ذلك وقنعوا بما أعطوا، وآثروا على أنفسهم من القليل كما وصفهم الله به؛ حيث يقول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فكان لهم من الأجر على ذلك كله ما لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل. وشكروا الله في حال الغنى على ما آتاهم الله من فضله، ووسع عليهم من رزقه، وأدوا ما افترض الله عليهم في أموالهم من الزكوات الواجبات، وقاموا بما يلزمهم القيام به من اللازمات، وتطوعوا لوجه الله تعالى بما لا يلزمهم من القرب والصدقات، فكان لهم من الأجر على ذلك كله ما لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل، وقد اختلف الناس في الفقر والغنى على أربعة أقوال: فمنهم من ذهب إلى أن الغنى أفضل، ومنهم من ذهب إلى أن الفقر أفضل. ومنهم من توقف في ذلك، ولم ير المفاضلة. وهذا فيمن كَان يؤدي ما لله عليه من حق في حال الفقر لفقره، وفي حال الغنى لغناه؛ لأن من كان يؤدي حق الله الواجب عليه في الفقر، ولا يؤدي حقهُ الواجب عليه في الغنى فلا اختلاف في أن الفقر أفضل له من الغنى، ومن كان يؤدي حق الله الواجب عليه في الغنى، ولا يؤدي حقه الواجب عليه في الفقر، فلا اختلاف في أن الغنى أفضل؛ لأن الفضل في الفقر والغنى ليس لذاتهما، وإنما هو لما يكتسب بسبب ما يؤجر عليه، فيكتسب بسبب الفقر الرضا والصبر، على ما قسم له، والشكر لله على ذلك، والتصرف والخدمة فيما يحتاج إليه من كسوته ونفقته، ونفقة من يلزمه الِإنفاق عليه، فيؤجر على ذلك كله، ويكتسب بسبب المال الصبر على إنفاقه في الواجبات، وما يندب إليه من القربات، مع حبه إياه، قال تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177] إلى قوله: {هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]. والشكر لله تعالى على ما أتاه من فضله فيؤجر على ذلك كله. والذي أقول به في هذا تفضيل الغنى على الفقر وتفضيل الفقر على الكفاف، وإنما قلت: إن الغنى أفضل من الفقر، لقوله عز وجل: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] فلو كان الفقر أفضل من الغنى، لكان تعالى يأمرنا أن نسأله تفضيل الأفضل بالأدنى، وذلك خلاف المعلوم من المعنى، وقوله عز وجل: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] فلو كان الفقر أفضل من الغنى لكان تعالى قد امتن عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأن نقله من الأفضل إلى الأدنى، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] فلو كان ما كانوا فيه أفضل وأولى لم يكن لحزنهم معنى، وقَوْله تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} [البقرة: 268] وشتان في الفضل بيْن ما يُعبد الله به من الغنى، وما يعبد الشيطان به من الفقر، وقوله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] وَقَوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74] وما أشبه ذلك من الآيات كثير، ولقوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: حين قيل له: ذهب الأغنياء بالأجور: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54]، وبقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَفَعَنِي مَال مَا نَفَعَنِي مَالُ أبِي بَكْرِ»، وقوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ ضَمِنْتُ لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ»، وقوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّكَ أنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيرٌ مِنْ أنْ تَذَرَهُم عالة يَتَكًفّفُونَ النَّاسَ». وأمره عَلَيْهِ السَّلَامُ بقبول ما أتى من غير مسألة، ونهيه عن إضاعة المال، وعن الوصية بما زاد على الثلث. وما أشبه ذلك من الأحاديث التي يكثر عددها ولا يمكن حصرها، ولأن الفقير يؤجر من وجهين: أحدهما: الصبر على الفقر والفاقة، مع الرضا بذلك، والشكر لله تعالى عليه، والثاني: تصرفه وعمله فيما يعيد به على نفسه ما لابد له منه من نفقته ونفقة من تلزمه نفقته.
والغني يؤجر من وجوه كثيرة، منها الشكر لله عز وجل على ما أتاه من فضله، ومنها الصبر على ما يعطيه من ماله لوجه الله عز وجل في الواجب عليه من الزكاة، وفيما سِوى ذلك من القربات ومن الِإنفاق على ما يجب عليه الِإنفاق عليه من الزوجات والبنين الصغار والآباء والأمهات المعدمِين، مع حبه له، وشحه عليه.
قال عز وجل: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177]... الآية، وقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] ثناءً منه عز وجل بذلك عليهم. وقد يتزوج الغني الزوجتين والثلاث والأربع، ويتسرى الِإماء ذوات العدد، فيستمتع بوطئهن، ويؤجر بذلك فيهن. والفقير لا يقدر على شيء من ذلك، وما فضل على الرجل من ماله بعد أن أدى منه الواجب عليه فيه باستمتاعه به في الرفيع من اللباس الطيب، والطعام الحسن، والحسن من الركوب، والجيد من السكنى من غير إسراف في شيء من ذلك كله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، أولى من ترك ذلك وإمساك المال، إذ لا أجر في مجرد إمساك المال، وإنما يؤجر على إمساكه إذا أمسكه لخير يريد أن يفعله منه. وقد يؤجر على الاستمتاع بماله في لباس الحَسَن؛ لأن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. «وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صاحب جابر بن عبد الله لما لبس الثوبين الجديدين بأمره له بذلك ونزع الخفين: مَا لَهُ ضَرَبَ اللهُ عُنُقَه، أَلَيْسَ هَذَا خَيْرٌ لَهُ؟» وقال عمر بن الخطاب: إنِّي لأحِبَ أنْ أنْظُرَ إلَى الْقَارِئِ أَبْيَضَ الثِّيَاب. وقال: إِذا أوسعَ اللهُ عليكم فَأوْسِعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ.
ويؤجَر عَلى التوسعة على أهله في الِإنفاق. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حتَّى مَا تَجْعَل فِي فِي امْرَأتكَ». ففي هذا كله بيان واضح على أن وجود المال خير من عدمه؛ لأنه إذا عدِمه لم ينتفع بعدمه، وإذا وَجَدَه انتفع بوجوده، إما باستمتاع مباح غير مكروه لا أجر له فيه، وإما باستمتاع مندوب إليه فيه أجر إلى ما يفعل منه من الخير الواجب والتطوع، وإنما قُلت: إن الفقر أفضل من الكفاف؛ لأن الذي عنده الكفاف، إنما يؤجَر على شكر نعمة الله عليه فيما أعطاه من المال الكفاف الذي لا فضل فيه عما يحتاج إليه، فأغناه ذاك عن الكدْح والتصرف فيما يحتاج إليه.
والفقير يؤجر من وجهين، حسبما ذكرناه، واستدل من ذهب إلى أن الفقر أفضل من الغني بقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] ولا دليل لهم فيه؛ لأن الأغنياء يشاركونهم في الصبر، والأجور في الأعمال على قدر النيات فيه.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن اللهَ قَدْ أوْقَعَ أجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نيَّتِهِ»، ومقدار النيات لا يعلمها إلا المجازي عليها. روي: أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء. ولا دليل فيه أيضاً، إذ ليس على عمومه؛ للعلم الحاصل بأن طائفة من أغنياء المسلمين كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان يدخلون الجنة قبل كثير من الفقراء وأنهم أفضل من أبي ذر، وأبي هريرة، ولأن السبق إلى الجنة لا يدل على زيادة الدرجات فيها، وكذلك ما روي من كون الفقراء أفضل أهل الجنة لا دليل لهم فيه، إذ ليس لهم فيه في الحديث أنهم أكثر أهل الجنة وأفقرهم، وإنما كانوا أكثر أهل الجنة؛ لأن الفقراء في الناس أكثر من الأغنياء، فالمحمودون منهم أكثر من المحمودين من الأغنياء، وليس الكلام في أي الطائفتين أكثر، وإنما هو في أيهما أفضل، أي: أكثر ثواباً.
وقد بينا وجه كثرة الثواب في ذلك، وأقوى ما يحتج به من ذهب إلى أن الفقر أفضل من الغنى، هو أن الفقراء أيسر حساباً وأقل سؤالاً، إذ لابد أن يسأل صاحب المال من أين كسبه؟ وهل أدى الحق الواجب عليه فيه أم لا؟ وسأل أيضاً عن تنعُّمه فيه بالمبَاح من المطاعم والملابس، بنص قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، وقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لأصحابه: «لَتُسْألُنّ عَنْ نَعِيم هَذَا الْيَوْم»، في طَعَامٍ صنَعَهُ لَهُم أبُو الْهَيْثَم بن التَّيْهان: خبز شَعيرِ ومَاءٍ مُسْتَعْذَب. وهذا لا حجة لهم فيه أيضاً؛ لأن السؤال عن ذلك كله لا يضرهم إذا أتوا بالبراءة منه. بل يؤجرون على ما يذكرونه من فعل الواجب عليهم فيه، ولا خفاء في أن من وجب لله عليه شيء، فسُئل: هل عمله أم لم يعمله؟ فوجد قد عمله، أفضل ممن لم يجب عليه، ولا سئل عنه؛ لأنه يؤجر على ما عمل من الواجب، كما يؤجر على ما عمل من التطور. وإنما توقف على المفاضلة بين الفقر والغنى من لم يفصل أحدهما على صاحبه، والله أعلم. من أجل أن لكل طائفة منها معنى تؤجرُ عليه دون الأخرى، والأجور في ذلك على قدر النيات في ذلك المعنى، ولا يعلم قدرها إلا المجازي عليها، فوجب الوقوف عن ذلك؛ لاحتمال أن يؤجر الفقير على معنى واحد، لقوة نيته فيه أكثر مما يؤجر الغني على معان كثيرة، لضعف نيته فيها.
وهذا صحيح مع التعيين، فلا يصح أن يقال: إن أَجر فلان في غناه لكثرة ما يفعل منه من الخير- أكثر من أجر فلان في فقره ورضاه بما قسم الله له من ذلك، ولأن أجره في فقره ورضاه بما قسم الله له منه أكثر من أجر فلان في غناه على ما يفعل منه من الخير.
وأما في الجملة فالغنى أفضل من الفقر لما بيناه من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه عَلَيْهِ السَّلَامُ. وأما من فضل الكفاف على الفقر والغنى، فلا وجه له في النظر والله أعلم. وأما الفقير الذي لا يقدر أن يقومَ بما يحتاج إليه حتى يسأل، فالغني أفضل منه قولاً واحداً، والله أعلم؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السًّفْلَى»؛ لأن اليد السفلى هي السائلة، والعليا النافقة، وقد استعاذ النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من الفقر المُنسى، كما استعاذ من الغني المطغي. وباللَّه التوفيق.